نشأته الفكريّة :
إنّ للبيئة أثراً كبيراً في صياغة الشخصية وتكوينها، فالانسان شديد التأثر بالمحيط الذي ينشأ فيه فكريّاً وعاطفياً، ومن هنا كان للبيئة التي فتح الشهيد الجلالي(قدس سره) ناظريه عليها والمحيط الذي نشأ فيه أثرٌ كبيرٌ في تكوين شخصيته، حيث كانت مدينة كربلاء المقدسة مركزاً لإشعاع الفكر الإسلامي، باعتبارها من أهمِّ العواصم العلميّة التي أنجبت الحجج الأثبات، والدعائم والأركان، والعباقرة والنوابغ، والفطاحل والأكابر، الذين صاروا غرّةً ناصعة في جبين الدهر، يفخر التاريخ بهم، ويباهي بأمجادهم ومآثرهم.
نشأ الشهيد(قدس سره) في هذه البيئة العلميّة الزاخرة بالعطاء الفكري، فخالط علماءها، وارتاد مجالسها التي كانت تعقد في مختلف المناسبات الدينية والعلميّة، واشترك بجدّ ونشاط في حلقات درسها تلميذاً لامعاً وأستاذاً بارزاً. دأب على دراسة علوم الدين منذ أوائل عمره، وأحبّها واوقف حياته عليها، حتى تفوّق فيها، وتميّز عن أقرانه بشكل ملحوظ، ولم يكن ذلك التفوق أمراً عفوياً، بل جاء نتيجةً طبيعيةً للمسيرة العلميّة التي قطعها الشهيد(قدس سره) في مراحل حياته، ولنسلط الضوء على ما وقفنا عليه من سلوكه في تحصيل العلوم :
1 ـ انضباطه واهتمامه بالوقت:
كان رحمه الله دقيقاً في وقته، يحضر مجالس الدرس والتدريس والبحث في أوقاتهاالمحددّة، لايتأخّر عنها إطلاقاً مهما كانت ظروفه، و لشدّة انضباطه واعتنائه بوقته كان يقسّم أعماله على أوقاته وفق برنامج يعيّن فيه وقت العبادة والدرس والمطالعة والشؤون العامّة بانتظام.
هذا بالنسبة لليوم، وكذا الحال بالنسبة للأسبوع والشهر والسنة.
وهكذا لم يفرّط بلحظة تمضي من عمره في غير اكتساب فضيلة، بل كان مستثمراً لجميع أوقاته بما هو نافع ومفيد وعلى هذا المنوال كان إلى آخر أيّام حياته الشريفة .
2 ـ جهده ومثابرته :
إنّ بلوغ الهدف مدين للجهد والمثابرة، فهما سرُّ كلّ نجاح يحقّقه الإنسان، وبذلك نطق القرآن الكريم
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى).
وقد اتّسم الشهيد الجلالي(قدس سره) منذ بدايات طلبه للعلم بعلوّ الهمّة، وبذل الجهد الكبير في التحصيل، والمثابرة، وقد أتقن رحمه الله المقدّمات والسطوح إتقاناً تامّاً بدراستها والتباحث فيها وتدريسها، وقد كتب فيها وعلَّق عليها، ضرب(قدس سره) المثل السامي في بذل قصارى الجهود في تحصيله مركّزاً اهتمامه عليه، صارفاً نفسه عمّا سواه، غير مهتمّ بما يدور حوله، لايعرف في حياته معنىً للتعب والملل، وكان(رحمه الله) إذا دخل في بحث علميّ لم يتركه حتى يستوعبه ويدركه تماماً، فإنّه لم يكن ليكتفي بالسطحيات بل كان يتوغّل في عمق المسائل.
وكان(رحمه الله) يقضي أغلب أوقاته في البحث العلمي والتحقيق والتأليف، وقد طلبتُ منه يوماً الاستراحة فقال : «العلم إذا أعطيته كلّكَ لم يعطك إلا بعضه، فكيف إذا أعطيته بعضك؟».
كان يعتبر سلوك طريق العلم أجلّ خدمة يؤدّيها الفرد المسلم لدينه ومذهبه; لأنّه يثقّف العقل، ويهذّب النفس، ويحثّ على الفضيلة، ويجنّب المرء شرّ الغيّ والضلال، فكان يشجّع على طلب العلم بجديّة، ويحثّ على المثابرة والسعي في سبيله، وكان يقول : «إنّ أفضل ليالي السنة هي ليلةُ القدر، وأفضلُ عمل فيها هو طلبُ العلم».
ولنترك الحديث في هذا المجال للعلامة المحقق السيّد أحمد الحسيني الإشْكَوَري الذي زاملَ الشهيدَ في بعض مراحل الدراسة في النجف الأشرف، حيث يقول : أوّل شيء ملفت للنظر من سلوك السيّد الجلالي - حينما كان طالباً في الحوزة - دأبه على التحصيل وجِدّه في طلب العلم وبذل قصارى جهده في الدراسة والبحث»( ) .
3 ـ صبره واستقامته :
كانت حياة الشهيد الجلالي(قدس سره) حافلة بالنوائب والمنعطفات التي لم ينحن أمامها، بل ظل صابراً محتسباً، واضعاً نصب عينيه هدفه السامي الذي يصبو إليه. أجل تجاوز بالتحمّل والصبر جميع العقبات التي كانت تعترض طريقه، سواء تلك العقبات التي تواجه عادةً أهل العلم إبّان دراستهم حيث لم تتوفّر لهم لوازم حياتهم الضرورية، أو تلك العقبات التي كان يوجدها رجال السلطة الجائرة من المطاردة والمضايقة، أو تلك العقبات التي كان يواجهها(قدس سره) من أناس جهّال غارقين في جهلهم وأوهامهم، بعيدين عن الحقّ